فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثانية: روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطَّهما حتى يمسح بهما وجهه.
وقد مضى في الأعراف الاختلاف في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك.
وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه؛ روي عن ابن عمر وابن عباس.
وكان على يدعو بباطن كفيه؛ وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم» وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري؛ قال: «وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه».
وقيل: حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه.
قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال.
قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما».
و{رَغَبًا وَرَهَبًا} منصوبان على المصدر؛ أي يرغبون رغبًا ويرهبون رهبًا. أو على المفعول من أجله؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال.
وقرأ طلحة بن مُصَرِّف {وَيَدْعُونَا} بنون واحدة.
وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السُّقْم والبُخْل، والعدْم والضُّر لغتان.
وابن وثاب والأعمش أيضًا {رَغْبًا وَرَهْبًا} بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان مثل نَهَر ونَهْر وصَخَر وصَخْر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو.
{وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} أي متواضعين خاضعين.
قوله تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها.
وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام؛ ولهذا قال: {وَجَعَلْنَاهَا وابنها آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين.
وقال الزجاج؛ إن الآية فيهما واحدة؛ لأنها ولدته من غير فحل؛ وعلى مذهب سيبويه التقدير: وجعلناها آية للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف.
وعلى مذهب الفراء: وجعلناها آية للعالمين وابنها؛ مثل قوله جل ثناؤه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
وقيل؛ إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد.
ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيده.
وقيل: إنها لم تلقم ثديًا قط.
و{أَحْصَنَتْ} يعني عَفّت فامتنعت من الفاحشة.
وقيل: إن المراد بالفرج فرج القميص؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة؛ أي إنها طاهرة الأثواب.
وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل.
قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا؛ فإنه من لطيف الَكِناية لأن القرآن أنزه معنًى، وأوزن لفظًا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لاسيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزِّه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس.
{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها.
وقد مضى هذا في النساء ومريم فلا معنى للإعادة.
{آيَةً} أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء. اهـ.

.قال أبو حيان:

{لا تذرني فردًا} أي وحيدًا بلا وارث، سأل ربه أن يرزقه ولدًا يرثه ثم رد أمره إلى الله فقال: {وأنت خير الوارثين} أي إن لم ترزقني من يرثني فأنت خير وارث، وإصلاح زوجه بحسن خلقها، وكانت سيئة الخلق قاله عطاء ومحمد بن كعب وعون بن عبد الله.
وقيل: إصلاحها للولادة بعد أن كانت عاقرًا قاله قتادة.
وقيل: إصلاحها رد شبابها إليها، والضمير في {إنهم} عائد على الأنبياء السابق ذكرهم أي إن استجابتنا لهم في طلباتهم كان لمبادرتهم الخير ولدعائهم لنا.
{رغبًا ورهبًا} أي وقت الرغبة ووقت الرهبة، كما قال تعالى: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} وقيل: الضمير يعود على {زكريا} و{زوجه} وابنهما يحيى.
وقرأت فرقة {يدعونا} حذفت نون الرفع وطلحة بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب.
وقرأ ابن وثاب والأعمش ووهب بن عمرو والنحوي وهارون وأبو معمر والأصمعي واللؤلؤي ويونس وأبو زيد سبعتهم عن أبي عمر و{رغبًا ورهبًا} بالفتح وإسكان الهاء، والأشهر عن الأعمش بضمتين فيهما.
وقرأ فرقة: بضم الراءين وسكون الغين والهاء، وانتصب {رغبًا ورهبًا} على أنهما مصدران في موضع الحال أو مفعول من أجله.
{والتي أحصنت فرجها} هي مريم بنت عمران أم عيسى عليه السلام، والظاهر أن الفرج هنا حياء المرأة أحصنته أي منعته من الحلال والحرام كما قالت {ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًا} وقيل: الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل لما قرب منها لينفخ حيث لم يعرف، والظاهر أن قوله: {فنفخنا فيها من روحنا} كناية عن إيجاد عيسى حيًا في بطنها، ولا نفخ هناك حقيقة، وأضاف الروح إليه تعالى على جهة التشريف.
وقيل: هناك نفخ حقيقة وهو أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها وأسند النفخ إليه تعالى لما كان ذلك من جبريل بأمره تعالى تشريفًا.
وقيل: الروح هنا جبريل كما قال: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها} والمعنى {فنفخنا فيها} من جهة جبريل وكان جبريل قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.
قال الزمخشري: فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال الله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} أي أحييته، وإذا ثبت ذلك كان قوله: {فنفخنا فيها من روحنا} ظاهر الإشكال لأنه يدل على إحياء مريم.
قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها، ونحو ذلك أن يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته انتهى.
ولا إشكال في ذلك لأنه على حذف مضاف أي {فنفخنا في} ابنها {من روحنا} وقوله قلت معناه نفخنا الروح في عيسى فيها استعمل نفخ متعديًا، والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع وغير متعد استعمله هو في قوله أي نفخت في المزمار في بيته انتهى. ولا إشكال في ذلك.
وأفرد {آية} لأن حالهما لمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل، وإن كان في مريم آيات وفي عيسى آيات لَكِنه هنا لحظ أمر الولادة من غير ذكر، وذلك هو آية واحدة وقوله: {للعالمين} أي لمن اعتبر بها من عالمي زمانها فمن بعدهم، ودل ذكر مريم مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر، ومن منع تنبؤ النساء قال: ذكرت لأجل عيسى وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه ويحيى للقرابة التي بينهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَزَكَرِيَّا} أي واذكر خبره {إِذْ نادى رَبَّهُ} وقال: {رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا} أي وحيدًا بلا ولدٍ يرثني {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} فحسبي أنت إن لم ترزُقني وارثًا {فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} وقد مر بيانُ كيفية الاستجابة والهبة في سورة مريم {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي أصلحناها للولادة بعد عُقْرها أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقِها وكانت حَرِدةً، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ في الخيرات} تعليل لما فصل من فنون إحسانِه تعالى المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي كانوا يبادرون في وجوه الخيراتِ مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير وهو السرُّ في إيثار كلمة في على كلمة إلى المُشعرة بخلاف المقصودِ من كونهم خارجين عن أصل الخيراتِ متوجهين إليها كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} ذوي رغَبٍ ورهَب أو راغبين في الثواب راجين للإجابة أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية أو للرغب والرهب {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} أي مُخْبتين متضرعين أو دائمي الوجَل، والمعنى أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافِهم بهذه الخصال الحميدة.
{والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي اذكر خبرَ التي أحصنتْه على الإطلاق من الحلال والحرام، والتعبيرُ عنها بالموصول لتفخيم شأنِها وتنزيهها عما زعموه في حقها آثرَ ذي أثيرٍ {فَنَفَخْنَا فِيهَا} أي أحيينا عيسى في جوفها {مِن رُّوحِنَا} من الروح الذي هو من أمرنا، وقيل: فعلنا النفخَ فيها من جهة روحنا جبريلَ عليه السلام {وجعلناها وابنها} أي قصتهما أو حالهما {ءَايَةً للعالمين} فإن مَنْ تأمل حالهما تحقق كمالَ قدرتِه عز وجل، فالمرادُ بالآية ما حصل بهما من الآية التامةِ مع تكاثر آياتِ كلِّ واحد منهما، وقيل: أريد بالآية الجنسُ الشاملُ لما لكل واحدٍ منهما من الآيات المستقلة، وقيل: المعنى وجعلناها آيةً وابنها آيةً فحذفت الأولى لدِلالة الثانية عليها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَزَكَرِيَّا} أي واذكر خبره عليه السلام {إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا} أي وحيدًا بلا ولد يرثني كما يشعر به التذييل بقوله تعالى: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} ولو كان المراد بلا ولد يصاحبني ويعاونني لقيل وأنت خير المعينين، والمراد بقوله: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} وأنت خير حي يبقى بعد ميت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء.
وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عز وجل، وقيل أراد بذلك رد الأمر إليه سبحانه كأنه قال: إن لم ترزقني ولدًا يرثني فأنت خير وارث فحسبي أنت.
واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه.
ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له» وفي رواية في صحيح مسلم: «ولَكِن ليعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه» ويمكن أن يقال: ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والاعتماد على الله عز وجل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل.
{فاستجبنا لَهُ} دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} وقد مر بيان كيفية ذلك {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقها وكانت سيئة الخلق طويلة اللسان كما روى عن ابن عباس.
وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن كعب القرظي وعون بن عبد الله أو أصلحناها له عليه السلام برد شبابها إليها وجعلها ولودًا وكانت لا تلد كما روى عن ابن جبير وقتادة، وعلى الأول تكون هذه الجملة عطفًا على جملة {استجبنا} لأنه عليه السلام لم يدع بتحسين خلق زوجه.
قال الخفاجي: ويجوز عطفها على {الله وَهَبْنَا} وحينئذ يظهر عطفه بالواو لأنه لما فيه من الزيادة على المطلوب لا يعطف بالفاء التفصيلية، وعلى الثاني العطف على {وَهَبْنَا} وقدم هبة يحيى مع توقفها على إصلاح الزوج للولادة لأنها المطلوب الأعظم، والواو لا تقتضي ترتيبًا فلا حاجة لما قيل: المراد بالهبة إرادتها، قال الخفاجي: ولم يقل سبحانه: فوهبنا لأن المراد الامتنان لا التفسير لعدم الاحتياج إليه مع أنه لا يلزم التفسير بالفاء بل قد يكون العطف التفسيري بالواو انتهى، ولا يخفى ما فيه فتدبر، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ في الخيرات} تعليل لما فصل من فنون إحسانه المتعلقة بالأنبياء المذكورين سابقًا عليهم السلام، فضمائر الجمع للأنبياء المتقدمين.
وقيل: لزكريا، وزوجه، ويحيى، والجملة تعليل لما يفهم من الكلام من حصول القربى والزلفى والمراتب العالية لهم أو استئناف وقع جوابًا عن سؤال تقديره ما حالهم؟ والمعلول عليه ما تقدم، والمعنى إنهم كانوا يجدون ويرغبون في أنواع الأعمال الحسنة وكثيرًا ما يتعدى أسرع بفي لما فيه من معنى الجد والرغبة فليست في بمعنى إلى أو للتعليل ولا الكلام من قبيل:
يجرح في عراقيبها نصلي

{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي راغبين في نعمنا وراهبين من نقمنا أو راغبين في قبول أعمالهم وراهبين من ردها، فرغبا ورهبا مصدران في موضع الحال بتأويلهما باسم الفاعل، ويجوز أن يكون ذلك بتقدير مضاف أي ذوي رغب، ويجوز إبقاؤهما على الظاهر مبالغة، وجوز أن يكونا جمعين كخدم جمع خادم لَكِن قالوا: إن هذا الجمع مسموع في ألفاظ نادرة. وجوز أن يكونا نصبًا على التعليل أي لأجل الرغبة والرهبة، وجوز أبو البقاء نصبهما على المصدر نحو قعدت جلوسًا وهو كما ترى. وحكمى في مجمع البيان أن الدعاء رغبة ببطون الأكف ورهبة بظهورها، وقد قال به بعض علمائنا، والظاهر أن الجملة معطوفة على جملة {يسارعون} فهي داخلة معها في حيز {كَانُواْ}، وفي عدم إعادتها رمز إلى أن الدعاء المذكور من توابع تلك المسارعة، وقرأت فرقة {يدعونا} بحذف نون الرفع، وقرأ طلحة {يدعونا} بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب، وقرأ {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} بفتح الراء وإسكان ما بعدها و{رَغَبًا وَرَهَبًا} بالضم والإسكان {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} أي مخبتين متضرعين أو دائمي الوجل، وحال التعليل أنهم نالوا من الله تعالى ما نوالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة.
{والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} نصب نصب نظائره السابقة، وقيل رفع على الابتداء والخبر محذوف أي مما يتلى عليكم أو هو قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} والفاء زائدة عند من يجيزه، والمراد بالموصول مريم عليها السلام، والإحصان بمعناه اللغوي وهو المنع مطلقًا، والفرج في الأصل الشق بين الشيئين كالفرجة وما بين الرجلين ويكنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح في ذلك وهو المراد به هنا عند جماعة أي منعت فرجها من النكاح بقسميه كما قالت {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] وكان التبتل إذ ذاك مشروعًا للنساء والرجال، وقيل الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل عليه السلام لما قرب منها لينفخ حيث لم تعرفه.
وعبر عنها بما ذكر لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها، والمراد من الروح معناه المعروف، والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء وليس هناك نفخ حقيقة.
ثم هذا الاحياء لعيسى عليه السلام وهو لكونه في بظنها صح أن يقال: نفخنا فيها فإن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها وليس بمراد، وهذا كما يقول الزمار.
نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقال أبو حيان: الكلام على تقدير مضاف أي فنفخنا في ابنها.
ويجوز أن يكون المراد من الروح جبريل عليه السلام كما قيل في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ومن ابتدائية وهناك نفخ حقيقة وإسناده إليه تعالى مجار أي فنفخنا فيها من جهة روحنا، وكان جبريل عليه السلام قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها فصح أن النفخ فيها من غير غبار يحتاج إلى النفخ، ثم النفخ لازم وقد يتعدى فيقال نفخنا الروح.
وقد جاء ذلك في بعض الشواذ ونص عليه بعض الأجلة فإنكاره من عدم الإطلاع {وجعلناها وابنها} أي جعلنا قصتهما أو حالهما {للعالمين إِنَّ} فإن من تأمل حالتهما تحقق كمال قدرته عز وجل، فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية التامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أريد بالآية الجنس الشامل ما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة، وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها واستدل بذكر مريم عليها السلام مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر.
وفيه أنه لا يلزم من ذكرها معهم كونها منهم ولعلها إنما ذكرت لأجل عيسى عليه السلام، وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه وابنهما يحيى للقرابة التي بينهم عليهم السلام. اهـ.